فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً} في فاعلِ {كَبُرَتْ} وجهان، أحدُهما: أنه مضمرٌ عائدٌ على مقالتِهم المفهومة مِنْ قولِه: {قالوا اتَّخذ الله}، أي: كَبُرَ مقالُهم، و{كلمةً} نصبٌ على التمييز، ومعنى الكلامِ على التعجب، أي: ما أكبرَها كلمةً. و{تَخْرُجُ} الجملةُ صفةٌ لـ: {كلمة}. ودَلَّ استعظامُها لأنَّ بعضَ ما يَهْجِسُ بالخاطرِ لا يَجْسُر الإِنسانُ على إظهاره باللفظ.
والثاني: أن الفاعلَ مضمرٌ مفسِّرٌ بالنكرةِ بعد المنصوبةِ على التمييزِ، ومعناها الذمُّ كـ: بِئس رجلًا، فعلى هذا: المخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ تقديرُه: كَبُرَتْ هي الكلمةُ كلمةً خارجةً مِنْ أفواهِهم تلك المقالةُ الشَّنعاءُ.
وقرأ العامَّةُ {كلمةً} بالنصبِ، وفيها وجهان: النصبُ على التمييز، وقد تقدَّم تحقيقُه في الوجهين السابقين. والثاني: النصبُ على الحالِ. وليس بظاهر.
وقوله: {تَخْرُجُ} في الجملة وجهان، أحدُهما: هي صفةٌ لكلمة. والثاني: أنها صفةٌ للمخصوصِ بالذمِّ المقدَّرِ تقديرُه: كَبُرَت كلمةٌ خارجةٌ كلمةً.
وقرأ الحسنُ وابنُ محيصن وابنُ يعمرَ وابن كثير- في رواية القَوَّاس عنه – {كلمةٌ} بالرفع على الفاعلية، {وتَخْرُج} صفةٌ لها أيضًا. وقرئ: {كَبْرَتْ} بسكون الباء وهي لغةُ تميم.
قوله: {كَذِبًا} فيه وجهان، أحدُهما: هو مفعول به لأنه يتضمَّنُ معنى جملة. والثاني: هو نعتٌ مصدرٍ محذوفٍ، أي: قولًا كذبًا.
قوله: {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ}: العامَّةُ على كسرِ {إنْ} على أنها شرطيةٌ، والجوابُ محذوفٌ عند الجمهور لدلالةِ قولِه: {فَلَعَلَّكَ}، وعند غيرِهم هو جوابٌ متقدمٌ. وقُرِئ: {أَنْ لم} بالفتح على حَذْفِ الجارِّ، أي: لأَِنْ {لم يؤمنوا}.
وقرئ: {باخِعُ نَفْسِكَ} بالإِضافة، والأصل النصبُ. وقال الزمخشري: وقرئ: {باخع نفسك} على الأصل، وعلى الإِضافة. أي: قاتلها ومهلكها، وهو للاستقبال فيمَنْ قرأ: {إنْ لم يُؤمنوا}، وللمضيِّ فيمن قرأ: {أن لم تُؤْمنوا} بمعنى: لأَِنْ {لم يؤمنوا}. قلت: يعني أنَّ باخِعًا للاستقبالِ في قراءةِ كسرِ {إنْ} فإنها شرطيةٌ، وللمضيِّ في قراءةِ فتحها، وذلك لا يجئُ إلا في قراءةِ الإِضافةِ إذ لا يُتَصَوَّر المُضِيُّ مع النصبِ عند البصريين. وعلى هذا يَلْزم أن لا يَقرأ بالفتح إلا مَنْ قرأ بإضافةِ {باخع}، ويُحتاج في ذلك إلى نَقْلٍ وتوقيف.
ولعلَّك قيل: للإِشفاق على بابها. وقيل: للاستفهام، وهو رأي الكوفيين. وقيل: للنهي أي: لا تَبْخَعْ.
والبَخْعُ: الإِهلاك. يقال: بَخَع الرجُل نفسَه يَبْخَعُها بَخْعًا وبُخُوعًا، أهلكها وَجْدًا. قال ذو الرمة:
3122- ألا أيُّهذا الباخعُ الوجدُ نفسَه ** لِشَيْءٍ نَحَتْه عن يديه المَقادِرُ

يريد: نَحَّته بالتشديد، فخفَّف.
قال الأصمعي: كان يُنْشِده: الوجدَ بالنصب على المفعولِ له، وأبو عبيدةَ رواه بالرفع على الفاعلية بالباخع.
وقيل: البَخْعُ: أن تُضْعِفَ الأرضَ بالزراعة. قاله الكسائي: وقيل: هو جَهْدُ الأرضِ، وفي حديثِ عائشةَ رضي الله عنها، عن عمر: «بَخَعَ جَهْدُ الأرضِ» تعني جَهَدَها حتى أَخَذَ ما فيها من أموالِ ملوكِها، وهذا استعارةٌ، ولم يُفَسِّرْه الزمخشري: هنا بغير القَتْلِ والإِهلاك. وقال في سورة الشعراء: والبَخْعُ. أن يَبْلُغَ بالذَّبْحِ البِخاه بالباء، وهو عِرْقٌ مستبطنُ الفقار، وذلك أقصى حَدَّ الذابحِ. انتهى. وسمعت شيخنا علاء الدين القُوْنِيِّ يقول: تتَّبْعتُ كتبَ الطِّبِّ والتشريحِ فلم أجدْ لها أصلًا. قلت: يُحتمل أنهم لمَّا ذكروه سَمَّوْه باسمٍ آخرَ لكونِه أشهرَ فيما بينهم.
وقال الراغب: البَخْعُ: قَتْلُ النفسِ غَمًَّا. ثم قال: وبَخَعَ فلانٌ بالطاعةِ، وبما عليه من الحقِّ: إذا أَقَرَّ به وأَذْعَنَ مع كراهةٍ شديدةٍ، تجري مَجْرَى بَخْعِ نفسِه في شِدَّتِه.
وقوله: {على آثارِهم} متعلقٌ ب {باخعٌ}، أي: مِنْ بعد هلاكِهم.
قوله: {أَسَفًَا} يجوز أن يكونَ مفعولًا من أجله والعامل فيه {باخعٌ}، وأن يكونَ مصدرًا في موضعِ الحال من الضميرِ في {باخع}.
{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)}.
قوله تعالى: {زِينَةً}: يجوز أَنْ ينتصِبَ على المفعولِ له، وأن يتنصِبَ على الحالِ إنْ جَعَلْتَ {جَعَلْنا} بمعنى خَلَقْنا، ويجوز أن يكونَ مفعولًا ثانيًا إنْ كانَتْ جَعَلَ تصييريةً و{لها} متعلقٌ ب {زِيْنةً} على العلةِ، ويجوز أَنْ تكونَ اللامُ زائدةً في المفعول، ويجوز أنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً لـ: {زينة}.
قوله: {لِنَبْلُوَهُمْ} متعلقٌ ب {جَعَلْنا} بمعنييه.
قوله: {أيُّهم أحسنُ} يجوز في {أيُّهم} وجهان، أحدهما: أن تكونَ استفهاميةً مرفوعةً بالابتداء، و{أحسنُ} خبرُها. والجملةُ في محلِّ نصبٍ معلَّقَةٌ لـ: {نَبْلُوَهم} لأنه سببُ العلم كالسؤال والنظر. والثاني: أنها موصولةٌ بمعنى الذي {وأحسنُ} خبرُ مبتدأ مضمرٍ، والجملةُ صلةٌ لـ: {أيُّهم}، ويكون هذا الموصولُ في محلِّ نصبٍ بدلًا مِنْ مفعول {لنبلوَهم} تقديرُه: لِنَبْلُوَ الذي هو أحسنُ. وحينئذٍ تحتمِل الضمةُ في {أيُّهم}، أن تكونَ للبناء كهي في قولِه تعالى: {لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ} [مريم: 69] على أحدِ الأقوالِ، وفي قوله:
3123- إذا ما أَتَيْتَ بني مالكٍ ** فَسَلِّمْ على أَيُّهم أَفْضَلُ

وشرطُ البناءِ موجودٌ، وهو الإِضافةُ لفظًا، وحَذْفُ صدرِ الصلةِ، وهذا مذهبُ سيبويه، وأن تكونَ للإِعراب لأنَّ البناءَ جائزٌ لا واجبٌ. ومن الإِعراب ما قُرِئ به شاذًا {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن} [مريم: 69] وسيأتي إنْ شاء الله تحقيقُ هذا في مريم.
والضمير في {لِنَبْلُوَهم} و{أيُّهم} عائدٌ على ما يُفْهَمُ من السِّياق، وهم سكانُ الأرض. وقيل: يعودُ على ما على الأرضِ إذا أُريد بها العقلاء. وفي التفسير: المرادُ بذلك الرُّعاة: وقيل: العلماءُ والصُّلحاءُ والخُلفاء.
{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)}.
قوله تعالى: {صَعِيدًا}: مفعولٌ ثانٍ، لأنَّ الجَعْلَ هنا تصييرٌ ليس إلا، والصَّعِيْدُ. الترابُ: والجُرُزُ: الذي لا نباتَ به. يقال: سَنَةٌ جُزُر، وسِنونَ أَجْرازٌ: لا مطَر فيها. وأرض جُزُرٌ وأَرَضُونَ أَجْرازٌ: لا نبات بها. وجَرَزَتِ الأرضُ: إذا ذَهَبَ نباتُها بقَحْطٍ أو جرادٍ وَجَرَز الأرضَ الجرادُ: أكلَ ما فيها. والجَرُوْزُ: المَرْأةُ الأكولةُ: قال:
3124- إنَّ العَجوزَ خَبَّةً جَرُوزا ** تأكلُ كلَّ ليلةٍ قَفيزا

. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4)}.
قالتهُم القبيحةُ نتيجةُ جَهْلِهم بوحدانيةِ الله، ولقد توارثوا ذلك الجهلَ عن أسلافهم؛ والحيَّةُ لا تَلِدُ حَيَّةَ!
كُبَرتْ كلمتُهم في الإثم لمَّا خَصَّت في المعنى. ومَنْ نطق بما لم يحصل له به إذنٌ لَحِقَه هذا الوصف. ومَنْ تكلَّمَ في هذا الشأن قبل أوانه فقد دخل في غمار هؤلاء.
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)}.
مِنْ فَرْطِ شفقته- صلى الله عليه وسلم- داخَلَه الحزنُ لامتناعهم عن الإيمان، فهوَّن الله- سبحانه- عليه الحالَ، بما يشبه العتابَ في الظاهر؛ كأنه قال له: لِِمَ كل هذا؟ ليس في امتناعهم- في عَدِّنا- أثر، ولا في الدِّين من ذلك ضرر.. فلا عليكَ من ذلك.
ويقال أشهده جريانَ التقدير، وعَرَّفَه أنه- وإنْ كان كُفْرِهم منْهِيًَّا عنه في الشرع- فهو في الحقيقة مُرَادُ الحق.
قوله جلّ ذكره: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا}.
ما علىلأرض زينة لها تُدْرَكُ بالأبصار، وممن على الأرض من هو زينة لها يُعْرَفُ بالأسرار. وإنَّ قيمةَ الأوطانِ لقُطَّانها، وزينة المساكن في سُكَّانها.
ويقال العُبَّاد بهم زينة الدنيا، وأهلُ المعرفة بهم زينة الجنة.
ويقال الأولياءُ زينةُ الأرض وهم أَمانُ مَنْ في الأرض.
ويقال إذا تلألأت أنوار التوحيد في أسرار المرحدين أشرقت جميع الآفاق بضيائهم.
قوله جلّ ذكره: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.
أحسنهم عملًا أصدقهم نِيَّة، وأخلصهم طوية.
ويقال أحسنهم عملًا أكثرهم احتسابًا؛ إذ لا ثوابَ لمن لا حسبة له، أعلى من هذا بل وأَوْلى من هذا فأحسنهم عملًا أشدُّهم استصغارًا لفعله، وأكثرهم استحقارًا لطاعته؛ لشجة رؤيته لتقصير فيما يعمله، ولانتقاصه أفعاله في جنب ما يستوجبه الحقُّ بحقِّ أمره.
ويقال أحسنُ أعمال المرءِ نَظَرُه إلى أعماله بعين الاستحقار والاستصغار، لقول الشاعر:
وأكبرهُ من فِعْله وأعظمُه

تصغيرُه فِعْلَه الذي فَعَله.
معناه: أكبرُ مِنْ فعلِه- الذي هو عطاؤه وبَذْلُه- تقليلُه واستصغارُه لِمَا يُعْطِيه ويجود به.
{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)}.
كَوْنُ ما على الأرض زينةً لها في الحال سُلِبَ قَدْرُه بما أخبر أنه سيُفْنِيهِ في المآل. اهـ.

.تفسير الآيات (9- 12):

قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)}.

.مناسبة الآيات لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان هذا من العجائب التي تضاءل عندها العجائب، والغرائب التي تخضع لديها الغرائب، وإن صارت مألوفة بكثرة التكرار، والتجلي على الأبصار، هذا إلى ما له من الآيات التي تزيد على العد، ولا يحصر بحد، من خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر والكواكب- وغير ذلك، حقر آية أصحاب الكهف- وإن كانت من أعجب العجب- لاضمحلالها في جنب ذلك، لأن الشيء إذا كان كذلك كثر ألفه فلم يعد عجبًا، فنبه على ذلك بقوله تعالى عطفًا على ما تقديره: أعلمت أن هذا وغيره من عجائب قدرتنا؟: {أم حسبت} على ما لك من العقل الرزين والرأي الرصين {أن أصحاب الكهف} أي الغار الواسع المنقور في الجبل كالبيت {والرقيم} أي القرية أو الجبل {كانوا} هم فقط {من ءاياتنا عجبًا} على ما لزم من تهويل السائلين من الكفرة من اليهود والعرب، والواقع أنهم- وإن كانوا من العجائب- ليسوا بعجب بالنسبة إلى كثرة آياتنا، وبالنسبة إلى هذا العجب النباتي الذي أعرضتم عنه بإلفكم له من كثرة تكرره فيكم، فإنه سبحانه أخرج نبات الأرض على تباين أجناسه، واختلاف ألوانه وأنواعه، وتضاد طبائعه، من مادة واحدة، يهتز بالينبوع، يبهج الناظرين ويروق المتأملين، ثم يوقفه ثم يرده باليبس والتفرق إلى التراب فيختلط به حتى لا يميزه عن بقية التراب، ثم يرسل الماء فيختلط بالتراب فيجمعه أخضر يانعًا يهتز بالنمو على أحسن ما كان، وهكذا كل سنة، فهذا بلا شك أعجب حالًا ممن حفظت أجسامهم مدة عن التغير ثم ردت أرواحهم فيها، وقد كان في سالف الدهر يعمر بعض الناس أكثر من مقدار ما لبثوا، وهذا الكهف- قيل: هو في جبال بمدينة طرسوس وهو المشهور، وقال أبو حيان: قيل: هو في الروم، وقيل: في الشام، وقيل: في الأندلس، قال: في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة، وأكثرهم قد انجرد لحمه، وبعضهم متماسك وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من عرف شأنهم، ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف، ونقل عن ابن عطية قال: دخلت إليهم سنة أربع وخمسمائة فرأيتهم بهذه الحالة وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم، وهو في فلاة من الأرض، وبأعلى حضرة غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة يقال لها مدينة دقيوس، ونقل أبو حيان عن أبيه أنه حين كان بالأندلس كان الناس يزورون هذا الكهف ويذكرون أنهم يغلطون في عدتهم إذا عدوهم وأن معهم كلبًا، قال: وأما ما ذكرت من مدينة دقيوس التي بقبلي غرناطة، فقد مررت عليها مرارًا لا تحصى، قال: ويترجح كون أصحاب الكهف بالأندلس- انتهى ملخصًا.
قلت: وفيه نظر، والذي يرجح المشهور ما نقل البغوي وغيره عن سعيد بن جبير عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: غزونا مع معاوية بحر الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف فإن معاوية لم يصل إلى بلاد الأندلس والله أعلم.
ولما صغر أمرهم بالنسبة إلى جليل آياته وعظيم بيناته وغريب مصنوعاته، لخص قصتهم التي عدوها عجبًا وتركوا الاستبصار على وحدانية الواحد القهار بما هو العجب العجيب، والنبأ الغريب، فقال تعالى: {إذ أوى} أي كانوا على هذه الصفة حين أووا، ولكنه أبرز الضمير لبيان أنهم شبان ليسوا بكثيري العدد فليست لهم أسنان استفادوا بها من التجارب والتعلم ما اهتدوا إليه من الدين والدنيا، ولا كثرة حفظوا بها ممن يؤذيهم أيقاظًا ورقودًا فقال تعالى: {الفتية} وهو أصحاب الكهف المسؤول عنهم، والشبان أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ {إلى الكهف} المقارب لقريتهم المشهور ببلدتهم فرارًا بدينهم كما أويت أنت والصديق إلى غار ثور فرارًا بدينكما {فقالوا} عقب استقرارهم فيه: {ربنا ءاتنا} ولما كانت الموجودات- كما مضى عن الحرالي في آل عمران- على ثلاث رتب: حكميات جارية على قوانين العادات، وعنديات خارقة للمطردات ولدنيات مستغرقة في الأمور الخارقات، طلبوا أعلاها فقالوا: {من لدنك} أي من مستبطن الأمور التي عندك ومستغربها {رحمة} أي إكرامًا تكرمنا به كما يفعل الراحم بالمرحوم {وهيئ لنا} أي جميعًا لا تخيب منا أحدًا {من أمرنا رشدًا} أي وجهًا ترشدنا فيه إلى الخلاص في الدارين، لا جرم صارت قصتهم على حسب ما أجابهم ربهم بديعة الشأن فردة في الزمان، يتحدث بها في سائر البلدان، في كل حين وأوان.
ولما أجابهم سبحانه، عبر عن ذلك بقوله تعالى: {فضربنا} أي عقب هذا القول وبسببه {على ءاذانهم} أي سددناها وأمسكناها عن السمع، وكان أصله؛ ضربنا عليها حجابًا بنوم ثقيل لا تزعج منه الأصوات، لأن من كان مستيقظًا أو نائمًا نومًا خفيفًا وسمعه صحيح سمع الأصوات {في الكهف} أي المعهود.
ولما كانت مدة لبثهم نكرة بما كان لأهل ذلك الزمان من الشرك، عبر بما يدل على النكرة فقال تعالى: {سنين}: ولما كان ربما ظن أنه ذكر السنين للمبالغة لأجل بعد هذا النوم عن العادة، حقق الأمر بأن قال مبدلًا منها معرفًا لأن المراد بجمع القلة هنا الكثرة: {عددًا} أي متكاثرة؛ قال الزجاج كل شيء مما يعد إذا ذكر فيه العدد ووصف أريد كثرته لأنه إذا قل فهم مقدار عدده بدون التقدير فلم يحتج إلى أن يعد.
{ثم بعثناهم} أي نبهناهم من ذلك النوم {لنعلم} علمًا مشاهدًا لغيرنا كما كنا نعلم غيبًا ما جهله من يسأل فيقول: {أي الحزبين} هم أو من عثر عليهم من أهل زمانهم {أحصى} أي حسب وضبط {لما} أي لأجل علم ما {لبثوا أمدًا} أي وقع إحصاءه لمدة لبثهم فإنهم هم أحصوا لبثهم فقالوا: لبثنا يومًا أو بعض يوم، ثم تبرؤوا من علم ذلك وردوه إلى عالمه وأهل البلد، أحصوا ذلك بضرب النقد الذي وجد معهم أو غير ذلك من القرائن التي دلتهم عليه، ولكنهم وإن صادق قولهم ما في نفس الأمر أو قريبًا منه فعلى سبيل الظن والتقريب، لا القطع والتحديد، بقوله تعالى: {قل الله أعلم بما لبثوا} [الكهف: 26] فإذا علم بجهل كل من الحزبين بأمرهم أن الله هو المختص بعلم ذلك، علم أنه المحيط بصفات الكمال، وأنه لم يتخذ ولدًا، ولا له شريك في الملك، وأنه أكبر من كل ما يقع في الوهم. اهـ.